بقلم: عبد الله حنا
دراسة المسألتين الطائفية والعشائرية في عالمنا العربي مسألة شائكة لأن العصبيات العشائرية والطائفية لا تزال تضرب بجذورها العميقة في تراب المجتمعات العربية، وبخاصة في أريافها.
وإذا علمنا أن الهجرة من الأرياف العربية إلى المدن تسارعت وتيرتها في النصف الثاني من القرن العشرين، أدركنا الخطورة في التعرض لظواهر العصبيات العشائرية والطائفية. وغالباً ما تجنّب الباحثون، ومعظمهم يبغون السلامة وراحة البال،التطرق إلى هذه الظواهر أو أنهم يمرون عليها مرور الكرام.
ثمة باحثون يدينون بالولاء لعشائرهم أو طوائفهم، فنراهم يتعرضون لهذه الظواهر ممجدين لها ومفتخرين برسوخ العقلية القبلية أو العشائرية. أما (مفكرو الطوائف) فنرى معظمهم يتناولون الظاهرة الطائفية مواربة ساعين بصورة خفية أو غير مباشرة للتعظيم من طوائفهم. ولهذا فنحن في هذه الزاوية سننقل ما دبّجته يراع (أهل العشائرية) في كل من الأردن وسورية، وسنضطر لغض الطرف عما كتبه (أهل الطائفية) إلى مناسبة أخرى.. (إذا أمدّ الله في العمر).
***
حول الوضع العشائري في الأردن نشير إلى كتاب: (مقدمة لدراسة العشائر الأردنية، دراسة تحليلية وتطبيقية من عام 1921 إلى 1984)، منشورات وزارة الثقافة في عمّان 1984، تأليف د. أحمد عويدي العبادي.
هذه الدراسة هي الدراسة رقم 6 من سلسلة (من هم البدو)، التي نشرتها وزارة الثقافة الأردنية. جاء في المقدمة ذات المغزى:
(فالناس الآن في نقطة تقاطع الدائرتين: الأولى هي البداوة والعشائرية وقد بدأت تذبل وتتلاشى، والثانية هي الحياة المعاصرة وقد بدأت تزدهر... ومع هذا كله فما زال للعشيرة موقعها ونكهتها، ومازال لتقاليدها وقيمها سيطرة تَضْبُط، في كثير من الأحوال، سلوك الأفراد والجماعات أكثر مما يفعله القانون... فالثوب الذي يلبسه الناس قد يبدو عصرياً، ولكن الجوهر والروح ما زالا مربوطين إلى قيم العشيرة).
هذا في الأردن البلد المعروف برسوخ الحياة القبلية في ربوعه.أما في سورية البلد الذي شهد انحساراً للعقلية العشائرية، وكذلك الطائفية، فقد عاد في نهاية القرن الماضي ليشهد من جديد عودة، وإن تكن محدودة للعشائرية. نستدل على ذلك بما صدر في الربع الأخير من القرن الماضي من كتب تمجد القبيلة وترفع من شأن رؤسائها. ونقدم أمثلة من بعض الكتب الصادرة أواخر القرن الماضي:
1 - (البادية بين عراقة الماضي وأصالة الحاضر، وما تيسر من أخبار قبائل عنزة وتميم وشمر)، مطبعة الكاتب العربي دمشق 1996، محمد الخالد الشرعبي العنزي.
جاء في المقدمة: إن (تبدل العلاقات من سلطة القبيلة إلى سلطة الدولة خفف من العصبيات القبلية). ويقول المؤلف إنه توخى من كتابه إلقاء الأضواء على البادية بوجهها المشرق. وسعى للتآلف بين القبائل منكراً أنها كانت على طرفي نقيض. كما اهتم المؤلف بوضع صور شيوخ العشائر والحديث عن حياتهم ونقل أشعارهم.
2 - (قبيلة البكارة الكبرى... النسب الماضي الحاضر)، دار المعارف بحمص 1995، أنور عبد الحميد.
وقد أهدى المؤلف الكتاب: (إلى روح شيخ مشايخ قبيلة البكّارة الكبرى المغفور له الشيخ راغب البشير). ويتبين من المقدمة أن مموّل الكتاب هو الشيخ نواف بن راغب البشير.
والبكارة تتكون من تسع وعشرين عشيرة تتوزع بين بكارة الجبل (جبل عبد العزيز)، وبكارة الزور (زور الفرات على الضفة اليسرى منه إلى الغرب من دير الزور)، وبكارة حلب. والزعامة (شيخ المشايخ) معقودة لزعيم بكارة الزور ومركزه في المحيمدية. ويلاحظ إيراد المؤلف لعدد كبير من الآيات القرآنية لتبرير الإيديولوجية القبلية وتثبيتها بصورة غير مباشرة.
والبكارة من العشائر، التي شرعت في الاستقرار منذ أواخر القرن التاسع عشر. ولكاتب هذه الأسطر دراسة ميدانية شيّقة عن بكارة الزور في منتصف القرن العشرين ستصدر قريباً في كتاب (الفلاحون يروون تاريخهم).
3 - (قبيلة شمّر)، دار الساقي بيروت 1988، هشال بن عبد العزيز الخريصي. وننقل بعض عناوين الفهرس: الأصل والمنشأ والمعتقد.. سجايا ومناقب.. طريقة شمر في التحالف.. بين الأصالة والحضارة.. مكارم الأخلاق عندهم.. تلقائية التدين.. حصانة في مواجهة الذوبان الاجتماعي.
رمى الكتاب إلى مدح شمّر في كل صفحة من صفحاته ووقف ضد التوطين والاختلاط مع الآخرين. ولنقرأ ما كتبه المؤلف في الصفحة 47: (إن التوطين الذي تمّ تطبيقه في العديد من المناطق العربية لم يكن ملائماً لأبناء هذه القبيلة. وربما حدث ذلك على نحو شكلي ومحدود لأن المخطّط للتوطين كان يقصد بالدرجة الأولى إذابة القبيلة وجعل الولاء للسلطة وليس للقبيلة).
4 - (قبيلة طي، الأصول، إيقاع الرحيل، الاستقرار)، دار المعارف حمص 1993، أنور عبد الحميد، عضو اتحاد الكتاب العرب بدمشق.
يستعرض المؤلف تاريخ قبيلة طي في التاريخ،والعشائر التي تفرعت عنها. ثم يستعرض أماكن سكنى طي حالياً وتحديداً في الجزيرة السورية إلى الجنوب من القامشلي. وبعض عشائر طي تقيم في: الرقة وسلوك، حمص، بلدة جاسم في حوران. جبل العرب، جرابلس(الشيوخ)، منبج، حلب. ويكيل المؤلف المديح لهذه القبيلة وشيوخها.
وللناشر كلمة ذات مغزى نقتبس منها: (يبدو لي مفيداً أن أفرق بين مفهوم (البداوة) ومفهوم (القبيلة). فظاهرة (البدوي) ظاهرة بيئية موجودة في كل صحارى العالم وحول واحاتها... أما مفهوم القبيلة والقبلية فتلك قضية أخرى لها تأثيرها وتفاعلاتها في المجتمع العربي سياسياً وفكرياً منذ أقدم العصور مروراً بالدولة الإسلامية... وإلى اليوم وتأكيداً لفكرة التفريق بين (البداوة والقبيلة) أقول إن بدو الوطن العربي لم يقيموا أية دولة على امتداد الوطن العربي).
في آخر الكتاب ملحق تحت عنوان: (همسة حق) للمهندس رياض زيد، مؤرخ في 1/8/1993 ننقل عنه ما يلي: (... لذلك فإن القبيلة بقيت تعبّر عن الأمة... وعن التاريخ وعن الحضارة بعيداً عن العرقية والعصبية... فما أحوجنا ونحن نعيش حالة انعدام الوزن الفكري والضياع القومي... أن نسترشد بوهج العربية الأصيل منارة طي ).
5 - ( البدو بين واقع حالهم وما كتب عنهم ) دار الإرشاد بحمص 1996، حسن الخضير المعتل.
تناول المؤلف العصبية العشائرية من وجهة نظر إيجابية مورداً الحديث النبوي الشريف: (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)، الذي يعمل به البدو على ظاهره.
الإيديولوجية العصبية البدوية عبّر عنها المؤلف في البيتين المعروفين من الشعر:
لا يسألونَ أخاهمْ حيَن يندبُهمْ في النائباتِ على ما قالَ برهانا
...
وما أنا إلا من غزيّةُ إن غوَتْ غويتُ وإن ترشدْ غزيّةُ أرشدِ
***
هذه عيّنة من (الفكر العشائري) في هذا الزمن، زمن انحسار النهضة العربية. ولم نشأ التعليق تاركين ذلك لمناسبة أخرى.
عبد الله حنا
--------------------------------------------------------------------------------
منقول من جريدة النور- 337 (16/4/2008)
--------------------------------------------------------------------------------